
الزحف الصحراوي في السودان.. غطاء نباتي يتلاشى ومجتمعات تقاوم من أجل البقاء
تحت وطأة التصحر.. الولاية الشمالية بالسودان تبحث عن أمل في الرمال
تقرير : عبدالعظيم قولو
دنقلا، الولاية الشمالية – يقف الشيخ آدم (67 عامًا) في أرض كانت يوماً ما تعجّ بشجر الطلح والنخيل ، ويشير بيده المتشققة من وهج الشمس إلى الأفق البعيد حيث لا يرى سوى بحر من الرمال المتحركة التي التهمت بساتينه ومحاصيله. “هذه الرمال ما كانت هنا من قبيل. أرضنا كانت خضراء بتاكلنا وبناكل منها. أما اليوم، فالرياح بتجيب الغبار والمشقّة، والزراعة أصبحت مغامرة بنخسرها كل عام”، يقول آدم وهو يمسح غبار عاصفة ترابية حديثة عن وجهه.
مشهد الشيخ آدم ليس حالة فردية، بل هو قصة متكررة في قرى ومناطق الولاية الشمالية بالسودان، التي تواجه زحفًا صحراويًا متسارعًا يهدد وجودها ذاته. لم يعد التصحر مجرد مصطلح علمي، بل تحول إلى واقع ملموس يغير معالم الحياة والطبيعة، مدفوعًا بالتغير المناخي العالمي والممارسات البشرية غير المستدامة، مما يستدعي تسليط الضوء على هذه القضية الملحة والبحث عن حلول عاجلة.
أرض تتلاشى
تشهد الولاية الشمالية، الحاضنة التاريخية لحضارة النيل، واحدة من أسرع معدلات التصحر في السودان، حيث تفقد آلاف الهكتارات من أراضيها الزراعية والرعوية سنويًا لصالح الزحف الصحراوي القادم من الصحراء الكبرى. وتشير البيانات الرسمية إلى أن نسبة الغطاء النباتي في الولاية انخفضت بأكثر من 60% خلال الأربعة عقود الماضية، نتيجة لتراجع معدلات هطول الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، والضغط المتزايد على الموارد المائية، إلى جانب الممارسات الزراعية التقليدية التي تستنزف التربة. هذه الظاهرة لا تقضي على التنوع البيولوجي فحسب، بل تهدد الأمن الغذائي لمجتمعات تعتمد بشكل أساسي على الزراعة والرعي، وتزيد من حدة الفقر والهجرة من الريف إلى المدن. 
الأبعاد العلمية للكارثة
يقول الدكتور علي حسن، أستاذ علوم البيئة بجامعة دنقلا: “الولاية الشمالية تقع في منطقة شبه جافة وهي الأكثر عرضة للتصحر. نحن نراقب انزياحًا واضحًا في الخطوط المناخية، حيث تنخفض الأمطار بمعدل 0.5 ملم سنويًا بينما ترتفع الحرارة بمعدل 0.3 درجة مئوية كل عقد. هذه التغيرات الطفيفة تراكميًا لها تأثير مدمر على قدرة النباتات المحلية على النمو والتكاثر”.
ويضيف: “الغطاء النباتي، وخاصة الأشجار مثل الهشاب والسيال، يشكل خط الدفاع الأول ضد التصحر. اختفاء هذه النباتات يعني فقدان التربة لطبقتها الواقية، مما يجعلها عرضة للانجراف بالرياح، وهذا بالضبط ما يحدث”.
الزحف الصامت: كيف يغير الصحراء كل شيء؟
لم يأتِ الزحف الصحراوي دفعة واحدة، بل هو عملية بطيئة ومدمرة، تتسلل الرمال مع كل عاصفة ترابية، وتجرف معها الطبقة السطحية من التربة الخصبة. هذه الرمال المتحركة لا تكتفي بابتلاع الأراضي الزراعية، بل تزحف على الطرق والمنشآت، وتهدد القرى السكنية بأكملها. يُروى أن بعض القرى الصغيرة اضطرت لتغيير مواقعها عدة مرات بسبب إحاطة الرمال بمنازلها وحقولها. إنها معركة يومية وصامتة ضد عدو لا يُرى بوضوح لكن أثره محسوس في كل ركن.

شهادات من قلب الميدان
في قرية “أم دوم” بالقرب من وادي حلفا، تحاول فاطمة عمر (45 عامًا) زراعة قطعة أرض صغيرة. “كل سنة بنحفر أكتر عشان نصل للموية، وكل سنة بتزيد العواصف الترابية. المحاصيل ما بقت زي زمان، العِيش ما بيستوي كويس من شدة الحر”. وتشير إلى كومة من الرمال تجتاح جانب منزلها: “الرملة دي جات في ليلة واحدة خلال عاصفة الشهر الفات”.
أما محمد إدريس، راعي أغنام، فيقول إن مناطق الرعي تقلصت بشكل كبير، مما أجبره على السير لمسافات أطول: “كنا بنلاقي المرعى قريب، هسة بنمشي لأيام وممكن ما نلاقي عشب كافي. غنمي بقت أضعف والأمراض بتنتشر”.

الحلول والمبادرات: يأس وأمل
على الرغم من قسوة الظروف، توجد جهود فردية وجماعية لمقاومة الزحف الصحراوي. في منطقة “قرية عبد الحكم”، أطلق مجموعة من المزارعين مبادرة لزراعة أشجار الأكاسيا المقاومة للجفاف حول حقولهم. يقول منسق المبادرة، عثمان محمد: “بستعمل تقنية العراقيل التقليدية، وهي عبارة عن حواجز من جذوع النخيل وأغصان الأشجار عشان نبطّئ زحف الرمال، وبنزرع في المساحات المحمية دي. النتائج بطيئة لكنها مشجعة”.
الشباب يواجهون التصحر بالتكنولوجيا والابتكار
في ظل التحديات الكبرى، يبرز دور الشباب كعامل تغيير. في مدينة دنقلا، يقوم مجموعة من خريجي كليات الزراعة بإطلاق مشاريع تجريبية تعتمد على تقنيات الري بالقطارة المتطورة واستخدام تطبيقات هاتفية لمراقبة رطوبة التربة. “التصحر ليس قدراً علينا أن نستسلم له”، يقول خالد أحمد، أحد مؤسسي المبادرة. “نحن نستخدم كل ما لدينا من معرفة لمواجهة هذه الكارثة. هدفنا هو إثبات أن الزراعة في الشمالية ممكنة، لكنها تحتاج إلى طريقة تفكير جديدة”.
من جهته، يعترف مدير هيئة الأراضي والغابات السابق بالولاية الشمالية، المهندس أحمد الخير، بضخامة التحدي: “عندنا خطة لإنشاء أحزمة خضراء حول القرى الأكثر تضررًا، وبنعمل على تشجيع استخدام تقنيات الري الموضعي لتقليل استهلاك الموية. لكن الإمكانيات محدودة جدًا. بنواجه تحديات كبيرة أبرزها نقص التمويل، وندرة الموية، وعدم استقرار الأوضاع في البلد اللي بيحول دون تنفيذ مشاريع كبرى بالشراكة مع منظمات دولية”.
ويشير إلى أن الصراعات في مناطق أخرى من السودان تزيد من الضغط، حيث تدفع بموجات نزوح إلى ولايات أكثر استقرارًا مثل الشمالية، مما يزيد من الاستغلال المكثف للأراضي والموارد المائية الشحيحة أصلاً.
دور المنظمات الدولية والمجتمع المدني
تمثل منظمة “أرض السودان” الخيرية المحلية واحدة من المنظمات الناشطة في هذا المجال. يقول ممثلها بالولاية، عمر البشير: “بننفّذ مشاريع صغيرة عشان ندعم صمود المجتمعات، زي توزيع مواقد بوتاجاز موفرة للطاقة لتقليل قطع الأشجار، وتدريب المزارعين على تقنيات حصاد الموية عبر إنشاء خزانات صغيرة ترابيع لجمع مياه الأمطار القليلة”.

نتائج وتوصيات: طريق للمقاومة
الزحف الصحراوي في الولاية الشمالية ليس قدرًا محتومًا، لكن مواجهته تتطلب إرادة سياسية حقيقية واستثمارات ذكية. الخبراء يجمعون على أن الحل يجب أن يكون متكاملًا، يشمل:
إعادة التشجير الواسعة: باستخدام أنواع نباتية محلية متأقلمة مع الجفاف.
تبني الزراعة الذكية مناخيًا: التي تركز على ترشيد استخدام المياه وتحسين خصوبة التربة.
تمكين المجتمعات المحلية: ودعم مبادراتها باعتبارها الأكثر فهمًا للبيئة والأكثر استعدادًا لحمايتها.
تعزيز التعاون الإقليمي والدولي: لتمويل وتنفيذ مشاريع كبرى لمكافحة التصحر، خاصة وأنها قضية عابرة للحدود.

بينما تستمر الرمال في الزحف، تبقى إرادة الإنسان هي خط الدفاع الأخير. قصة مقاومة أهل الولاية الشمالية للتصحر هي قصة صراع من أجل البقاء، تحتاج إلى أن تروى، وإلى أن تجد آذانًا صاغية قبل أن تطوي الرمال آخر ورقة خضراء في الشمال.
تم إعداد هذا التقرير كمشروع تخرج من دبلوم صحافة المناخ الذي تنظمه مدرسة المناخ بالتعاون مع مؤسسة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبكة الصحفيين الدوليين











