طالب معدنون أهليون من السودان في منطقة جبل العوينات، الحكومة السودانية بالتدخل لتوفير الحماية لهم، بعد أن قامت وحدة تابعة للجيش المصري بطردهم من مناطق عملهم “ضمن الحدود السودانية” ومنعتهم من القيام بأعمال تعدين الذهب وصادرت معداتهم. تداولت منصات التواصل الاجتماعي فيديو قصير مدته دقيقة وخمس ثوانٍ يظهر أشخاصًا يتنقلون في منطقة جبلية صعبة. يقول المتحدث في المقطع إن الفيديو تم تصويره في 3 نوفمبر 2024، ووجه اتهاماً إلى الجيش المصري بالاعتداء على المعدنين السودانيين في تلك المنطقة ومصادرة ممتلكاتهم، بما في ذلك السيارة. وأفاد المتحدث بأن الجيش المصري أطلق النار، مما أسفر عن إصابة ثلاثة أشخاص، كما تم اعتقال عدد من المواطنين السودانيين، مما أجبر بقية المعدنين على مغادرة المنطقة والتوجه إلى المناطق الجبلية المرتفعة. في فيديو آخر يمتد لثلاث دقائق و57 ثانية، يوضح اثنان من المعدنين تفاصيل إضافية حول ما حدث في 3 نوفمبر 2024، حيث يحددون بدقة موقع الحادث بأنه في جبل “شرق العساري”، والذي يقع بالقرب من جبل “خريف” وجبل “حراق”، وهما جبال تقع داخل الأراضي السودانية وتحمل أسماء سودانية. ويشير متحدث آخر إلى أن المنطقة تقع بالقرب من جبل “عيقاد” على الحدود السودانية وعلى خط العرض 24 درجة، وهي أراضٍ سودانية. يتهم المعدنون الجيش المصري بالاستيلاء على أراضٍ سودانية، مع الإشارة إلى أنه تدخل لصالح شركة مصرية، لكن هناك صوت آخر يثير الشكوك ويتحدث عن شركة تعدين مصرية. يطالب المعدنون الحكومة السودانية بالتدخل، لا سيما أنهم يسددون رسوم المعادن للشركة السودانية، مما يثبت أن الأراضي تعود للسودان. عمل فريق دبنقا للتحقق على مراجعة مقطعي الفيديو واستطاعوا التأكد من أنهما تم تصويرهما في 3 نوفمبر 2024، وأن الموقع هو منطقة جبل العوينات الموجودة في مثلث الحدود بين السودان ومصر وليبيا.
جبل العوينات
جبل عوينات هو سلسلة جبلية يبلغ أقصى ارتفاع لها 1934 متراً، وتغطي مساحة 1500 كيلومتر مربع. تقع هذه السلسلة في مثلث الحدود بين السودان (الولاية الشمالية) ومصر (محافظة الوادي الجديد) وليبيا (بلدية الكفرة). يحتل الجزء الأكبر من السلسلة الجبلية في ليبيا، حيث يشكل حوالي 60 في المئة من مساحتهم الإجمالية، كما تمتد هذه السلسلة بشكل كبير داخل السودان، بينما يوجد جزء محدود منها داخل مصر. يمثل خط العرض 22 درجة الخط الفاصل بين السودان ومصر في القسم الغربي من حدودهما المشتركة، التي تمتد لمسافة 1276 كيلومتراً من مثلث الحدود مع ليبيا غرباً وصولاً إلى ساحل البحر الأحمر شرقاً. يتألف الجزء الغربي من الجبل من مجموعة من الجبال الجرانيتية وينتهي بثلاثة وديان تتجه نحو الغرب، وهي “كركور حميد”، “كركور إدريس”، و”كركور إبراهيم”. بينما يتكون جانبها الشرقي من الحجر الرملي وينتهي بوادي “كركور طلح” و”كركور مور”. تشير كلمة “كركور” إلى وادي بلغة قبيلة “التبو”، كما توجد واحة دائمة تُعرف باسم “عين البرنس” أو “بير مور”.
التعدين الأهلي
في السنوات الأخيرة، ازدادت ظاهرة التعدين الأهلي في منطقة جبل العوينات، التي يُطلق عليها البعض حالياً اسم جبل الذهب. تشير بعض الدراسات إلى أن جبل العوينات يحتوي على ثاني أكبر احتياطي للذهب في القارة الأفريقية. يتواجد المعدنون في المنطقة دون الأخذ في الاعتبار حدود الدول الثلاث، مستفيدين من الطابع الجغرافي لهذه المناطق وقلة السيطرة الدائمة للدولة عليها، بالإضافة إلى صعوبة مراقبتها بسبب التضاريس الجبلية الوعرة. في ظل نقص الإحصائيات حول كميات الذهب المستخرجة وطرق نقلها إلى الأسواق الإقليمية، قامت مصر وليبيا مؤخراً بمكافحة التعدين الأهلي داخل أراضيهما ومنحت حقوق التعدين لشركات كبيرة تعتمد على تكنولوجيا متطورة. في المقابل، لم يقم السودان بأي إجراءات لتنظيم عمليات التعدين الأهلي، حيث تكتفي الحكومة السودانية من خلال وكلاء الشركة السودانية للمعادن بتحصيل الرسوم من المعدنين دون تقديم أي خدمات لهم، بما في ذلك خدمات الحماية من الشرطة. بعد اندلاع الحرب وتوقف الأنشطة في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، فضلاً عن نزوح سكان المدن الكبيرة، اتجه عدد كبير من الشباب للعمل في مناجم التعدين الأهلي كوسيلة سريعة لتحقيق دخل يساعدهم على تلبية احتياجات أسرهم المتأثرة بالحرب، مما يعكس استمرار ظاهرة ازدادت في السنوات الأخيرة.
مزيد من التصعيد
بتاريخ 7 نوفمبر 2024، وبعد مرور 4 أيام على تداول مقطعي الفيديو، تم نشر مقطع فيديو ثالث قصير تبلغ مدته 20 ثانية، يظهر فيه ضابط يرتدي زي الجيش المصري محاطًا بعدد من الجنود المسلحين وشخص يرتدي ملابس مدنية، وهم يحاولون التحدث مع عدد من المعدنين السودانيين في نفس المنطقة التي تم تصوير مقطعي الفيديو فيها بتاريخ 3 نوفمبر. ولكن تم قطع التصوير فجأة، مما يشير إلى أن القوة المسلحة هي التي منعت استكماله. وتزامن ذلك مع انتشار خبر على عدد من الحسابات على تطبيق “واتساب” يؤكد “اقتحام مجموعة تابعة للجيش المصري لمسافة 50 كيلومتراً داخل الأراضي السودانية، متجاوزة الحدود الشمالية للسودان، وذلك تحت مزاعم تأمين حدودها الجنوبية، في ظل تصعيد أمني من السلطات المصرية وقوات حرس الحدود تجاه المواطنين السودانيين الذين يمارسون مهنة التعدين”.
هل دخل الجيش المصري إلى الأراضي السودانية؟
بعد التأكد من صحة مقاطع الفيديو وعدم وجود تلاعب في محتواها وكذلك من صحة تواريخ التصوير، قام فريق دبنقا بالتحقق بشكل دقيق من موقع تصوير مقاطع الفيديو وسجل الملاحظات التالية:
التفاصيل التي تظهر في المقاطع الثاني والثالث تظهر خياما خضراء تم تفكيكها ما يؤكد أن المقاطع صورت في منطقة واحدة.
أسماء الجبال الثلاث التي تم ذكرها في مقطع الفيديو الثاني جميعها توجد جنوب خط العرض 22 درجة شمال ما يؤكد أن منطقة التصوير داخل حدود السودان.
يتوافق جميع المتحدثين على أن المنطقة تقع ضمن الحدود السودانية، ولكن أحدهم يشير إلى أن المنطقة تقع جنوب خط العرض 24 درجة شمالاً، في حين أن الحد الفاصل بين مصر والسودان في هذه المنطقة هو خط العرض 22 درجة شمالاً.
المسافة بين خط العرض 22 درجة شمال وخط العرض 24 درجة شمال تبلغ 222 كيلومتر، ما يعني أن المنطقة تقع داخل الحدود المصرية حسب هذه الرواية ويثير شكوكا بشأن موقع التصوير.
يمثل خط العرض 24 درجة الحد الشمالي للحدود السودانية في منطقة مثلث حلايب، الواقعة في الجهة الشرقية للحدود بين مصر والسودان.من الصعب تحديد نقاط حدودية تعين مسار خط الحدود بين مصر والسودان في هذه المنطقة الجبلية الوعرة.
منذ اندلاع الحرب، تسيطر قوات الدعم السريع على مناطق واسعة من شمال دارفور والمناطق الشمالية الغربية من الولاية الشمالية ويبدو أن الجيش السوداني غائب عن هذه المنطقة.
من غير المستبعد أن تحاول الغرف الإعلامية لقوات الدعم السريع الاستفادة من مثل هذه الأحداث وتجييرها لصالح حملتها ضد التدخل المصري في الحرب السودانية.
من غير الوارد في ظروف الحرب الحالية والدعم المصري للجيش السوداني أن تستجيب السلطات السودانية لمطالب المعدنين، كما أن التجارب السابقة مع الجيش المصري تؤكد أنه ينتهز مثل هذه الظروف لتحقيق مكاسب مثل ما حدث في مثلث حلايب بعد حادثة محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس ابابا واضطر حينها نظام الإنقاذ للصمت.
في ظل هذه الشكوك حول القدرة على تحديد موقع تصوير مقاطع الفيديو بدقة، وقبل الوصول إلى استنتاجات، حاول فريق دبنقا للتحقق التواصل مع المفوضية القومية للحدود عبر الأرقام الموجودة على صفحة المفوضية على فيسبوك، لكن لم تكن هناك أي ردود على المكالمات، رغم أن الصفحة نشطة.
كما لم يتسنَ التواصل مع المعدنين في المنطقة للحصول على معلومات إضافية بسبب صعوبات الاتصال الهاتفي. قرر فريق دبنقا للتحقق عرض كل هذه المعلومات على متابعي منصات راديو دبنقا المختلفة والاستمرار في التواصل مع الجهات المعنية لتحديد المواقع المطلوبة بدقة تامة.
…